النية في طلب العلم وأثرها في تحصيل الطالب
الحمد لله والصّلاة والسّلام على رسول الله، وآله، ومن والاه، وبعد:
فممّا أَمر الشرع فيه بالإخلاص طلبُ العلم الديني، فقال صلى الله عليه وسلم: «من تعلّم علماً مِمّا يُبتغى به وجه الله لا يتعلَّمه إلا ليصيب به عَرَضًا من الدّنيا لم يجد عَرْف الجنَّة يوم القيَامة» [رواه الترمذي وأبو داود وصححه الألباني وحسنه الأرناؤوط]. وجاء في حديث الثلاثة الذين أول ما تُسَعَّر بهم النّار: «رجلٌ تعلّم العلم، وعلّمه، وقرأ القرآن، فأُتي به فعرَّفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: تعلّمت العلم، وعلّمته، وقرأت فيك القرآن، قال: كذبت، ولكنك تعلّمت العلم ليُقال: عالم، وقرأت القرآن ليُقال: هو قارئ، فقد قيل، ثم أَمر به فسُحب على وجهه حتى أُلقي في النار» [رواه مسلم وغيره].
ولأجل هذا قرَّر العلماء أنه لا ينبغي لطالب العلم أن يكون مقصوده من طلبه العلم، تحصيلَ غرض من أغراض الدنيا من جاهٍ أو مال أو منصب أو شهادة أو وظيفة، ونحو ذلك. وممّا قالوا: «اعلم أن من طلب علم الشريعة ليدرك به رياسةً، أو يكسب به مالًا، فقد هلك، لأنَّه طلبه لغير ما أمره خالقه أن يطلبه، لأن خالقنا، عزَّ وجل، إنّما أمرنا أن نطلب ما شرع لنا لننجو به بعد الموت من العذاب والسخط. فمن طلبه لغير ما أمره به خالقه، فقد عطاءَه، وبطل تعبه، وحبط عمله، وضلَّ سعيه» [رسائل ابن حزم (3/ 140)]، وقالوا: «والذي يجب على الطالب أمور: الأول: صلاح النِّية في طلبه فلا يكون قاصدًا بذلك حِرفةً من حِرَف الدنيا، كأن يكون مدرِّسًا أو مفتيًا أو حاكمًا أو يماري به العلماء، أو لأجل أن يكون له شرفٌ أو غير ذلك من الأسباب التي تخالف أن يكون الفعل لله سبحانه. الثاني: أن يتوجَّه مع العزم على أنَّه يريد العلم الذي يوصل إلى الجنة، ويكون سبب السعادة ورضاء الربّ سبحانه» [أبجد العلوم للقنوجي ص87].
وإخلاص النّية في طلب العلم أن «يقصد به وجه الله تعالى، والعمل به، وإحياء الشريعة، وتنوير قلبه وتحلية باطنه، والقرب من الله، تعالى، يوم القيامة، والتعرّض لما أعدَّ لأهله من رضوانه وعظيم فضله» [تذكرة السامع والمتكلم لابن جماعة ص35].
ومُعظم كتب آداب طالب العلم تبدأ بالتوصية بالإخلاص في طلبه. وتحث المعلّم على أن يحرّض طلابه على الإخلاص في ذلك، ويديم تذكيرهم به.
ولا تقتصر الآثار الحسنة والعظيمة للإخلاص في طلب العلم على الجانب الأخروي من الفوز بالأجر، والنجاة من الوزر، لكِلا المعلّم والطالب، بل تعدو ذلك إلى حسن تحصيل الطالب للعلم، وإتقانه له، وإبداعه فيه؛ وذلك لأنّ من طلب العلم لغرضٍ دنيوي قريب، فإنّه يكتفي منه بما يوصله إلى غرضه، ويتحايل على جهد التعلُّم للوصول إليه، ثم يتوقَّف عمَّا وراء ما يحصِّل له ذلك الغرض. فمثلًا، من طلب العلم لمجرّد الدرجات والشهادات والوظيفة، لا يعنيه إلا تحصيلُ درجة النّجاح، وحتّى لو طمِح إلى التفوّق في شهادته، فإنّه يتحايل على الجهد الذي ينبغي بذله في طلب العلم، عن طريق توخّي ما يوصله إلى مقصوده من الدرجات بأقل جهد ممكن، كأن يهمل المُدارسة والمذاكرة إلا قُبيل الامتحانات، أو يترصّد المعلّمين الذين يسهُل عندهم نيل الدرجات، ولو على حساب نوعية تعليمهم، أو يلجأ إلى حِيَلٍ أخرى، كمتابعة أسئلة أستاذه لمن سبق له دراسة العلم عنده من الطلاب القدامى، أو حتى إلى الغِشّ في الامتحان وفي تقديم الواجبات. وهذا ملاحظٌ وكثيرٌ بين طلبة العلم عمومًا. وهو السبب الرئيس لفشل التعليم المعاصر في إيجاد ما يُسمّى في اللغة التربوية بـ «المتعلِّم مدى الحياة»، وهو المتعلِّم الذي لا يقنع بما تعلّم من العلم في مرحلةٍ ما، بل يواصل التعلُّم إلى أن يدركه الأجل.
وفي هذا المعنى، قال ابن حزم رحمه الله: «من طلب العلم ليفخر به، أو ليُمدح به، أو ليكتسب به مالًا، أو جاهًا، فبعيدٌ عن الفلاح؛ لأنّه ليس له غرضٌ في التّحقيق فيه، وإنّما غرضه شيءٌ آخر غير العلم. ونفسُ الإنسان وعينُه طامحتان إلى غرضه فقط، فلا يبالي كيف كان طلبُه إذا حصل على مراده الذي إيَّاه قصد» [رسائل ابن حزم (4/ 78)].
وقال ابن الجوزي رحمه الله، «تأمَّلت العلماء والمتعلِّمين، فرأيت القليل من المتعلِّمين عليه أمارة النَّجابة؛ لأنّ أمارة النَّجابة طلب العلم للعمل به، وجمهورهم يطلب منه ما يُصَيرِّه شَبَكةً للكَسْب: إمّا ليأخذ قضاءَ مكانٍ، أو ليصير قاضي بلد، أو قدْر ما يتميزَّ به عن أبناء جنسه، ثم يكتفي» [صيد الخاطر، ص70].
وقال ابن الأكفاني، رحمه الله: «من تعلّم علمًا للاحتِرَاف لم يأتِ عالمًا إنّما جاء شبيهًا بالعلماء» [إرشاد القاصد إلى أسنى المقاصد، ص 95].
وقال الشيخ بدر الدين الحلبي، رحمه الله، في شروط المتعلِّم: «أن يكون غرضُه من تعلُّم العلم التحقُّق به، وخدمة النّاس بعلمه، وتسهيل طرق الارتفاق، ولا يجعل همَّهُ التوصُّلَ به إلى شيء من الدنيا وفوائدها؛ فإنّه إذا كان ذلك همَّهُ، كان حرصُه على الفائدة، لا على العلم، فلم تتوجَّه إليه نفسُه تمامَ التوجُّه، فقلَّ أن يحصل منه على المَلَكة الكافية، واكتفى من العلم بالقدْر الذي يصل به إلى مطلوبه. وهذا الشَّرط قلَّ من يراعيه من طلاب العلوم في المدارس الشّرعية والنِّظامية، فإنَّ أكثر الطلاب لا يُقَدِّرون في أيَّام اشتغالهم إلا الحصولَ على الشّهادة، لنوال مُرتّب أو للاستخدام بها، فهو يسعى للمرتَّب أو الخدمة بكلِّ قلبه، ونفسُه في شغلٍ شاغلٍ عن العلم» [التعليم والإرشاد، ص237].
وقال المنفلوطي، رحمه الله: «لن يبلغ المتعلِّم درجة النّبوغ إلا إذا وضع في العلم الذي مارسه مسألة، أو كشف حقيقة، أو أصلح هفوة، أو اخترع طريقة، ولن يسلس له ذلك إلا إذا كان علمُه مفهومًا لا محفوظًا، ولا يكون مفهومًا إلا إذا أخلص المتعلِّم إليه، وتعبّد له، وأنِس به أُنس العاشق بمعشوقه، ولم ينظر إليه نظر التاجر لسلعته، والمحترف إلى حرفته، فالتاجر يجمع من السِّلع ما ينفُق سوقه، لا ما يغلو جوهره، والمحترف لا يهمُّه من حرفته إلا لقمة الخبز وجرعة الماء، أحسن أم أساء. لا يزور العلمُ قلبا مشغولاً بترقُّب المناصب، وحساب الرَّواتب، وسوق الآمال وراء الأموال» [النظرات (1/ 289)].
وعليه، فإذا أردنا، نحن المعلمين، لطلابنا أن يحصِّلوا العلم حقيقة لا شكلًا، وإذا أردناهم أن يكونوا «متعلِّمين مدى الحياة»، وإذا أردنا قبل هذا وذاك أن نراهم من الناجين في الآخرة بعلمهم، لا من الهالكين بسببه، فينبغي أن لا نملَّ ولا نَكلَّ من تذكيرهم بإخلاص النِّية في طلبه، كُلَّما سنحت الفرصة، ولاحت المناسبة. ولا يكمُل ذلك حتى نكون، نحن أنفسَنا، مخلصين في التعليم والإرشاد، لا أن يكون مقصودنا المال أو حسن الذِّكر والشُّهرة. وهنا تبرز إشكاليَّة الجمع بين الارتزاق من العلم، مع الإخلاص في طلبه وتعليمه، وهو ما سنخصّص لكشفه وحلِّه مقالةً قادمة إن شاء الله تعالى.
وكتبه:
د. أيمن صالح

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

دليلك السريع للتعامل مع موقع تقييم الأداء السنوي في جامعة قطر

ثماني صفات للاختبار الجيد

أهم التعديلات على لائحة الترقيات الجديدة في جامعة قطر