التجديد في مجال التعليم الشرعي بين القديم والحديث

Image result for ‫التعليم الديني‬‎
الحمد لله والصّلاة والسّلام على رسول الله، وآله، ومن والاه، وبعد:

فتعليم العلوم الشرعيّة، ومنها الفقه، يعاني أزمة في هذا الزمن، تتمثّل جليًّا في ضعف خريجي الدّراسات الشرعيّة في غالب مؤسّسات التّعليم العالي في الدّول الإسلاميّة. ومن يخرج عن القاعدة ويتفوّق من الدّارسين والنوابغ فليس مردّ تفوّقه كفاءةَ مؤسّسة التّعليم التي انتمى إليها، وإنّما إمكاناته الفطريّة وجهود الشخصيّة في التعلّم الذّاتي خارج إطار مؤسّسة التّعليم.

والسّبب الرئيس لهذه الأزمة، من وجهة نظري، هو انتقال التعليم الشرعي الفجّ والسّريع وغير المدروس بعناية، من الطريقة التقليديّة (حلقات التّعليم) إلى الطريقة النظامية الحديثة في الكُليّات والمعاهد والجامعات الشرعيّة. فصار مثلُه كمثل الغراب الذي حاول أن يقلِّد مِشية الحمامة فلا هو استطاع أن يقلّدها، ولا هو استطاع أن يرجع إلى مشيته الأصليّة.
والفروق بين الطريقة التقليديّة الموروثة لتدريس علوم الشريعة، ومنها الفقه، وبين الطريقة الحديثة، كثيرة، ولكن أهمّها اثنان هما المسؤولان المباشران عن تردّي المخرجات في التعليم الحديث للعلوم الشرعيّة:
أحدهما: أنّ الطريقة التقليديّة تراعي التدرّج والتّكرار في سلّم التّعليم، من المتن المختصر، إلى المتوسّط، إلى الموسّع، كما في كتب الغزالي: «الخلاصة»، ثمّ «الوجيز»، ثمّ «الوسيط»، ثمّ «البسيط»، وكما في كتب ابن قدامة: «العمدة»، ثمّ «المقنع»، ثمّ «الكافي»، ثمّ «المغني». فكلّ كتاب يحوي مسائل الكتاب الذي قبله وزيادة، وهكذا تتكرّر المسائل على المتعلِّم في ثلاثة تكرارات أو أربعة، ولا يثبت العلم إلا بذلك كما ذكر ابن خلدون (المقدمة 1/734). وأمّا في التعليم الحديث فليس ثمّة تكرار، ويندر التدرّج، بل يهجم الطالب - الجامعي مثلا - على المرحلة المتوسّطة، فلا يُهيَّأ بمرحلة وجيزة سابقة لذلك؛ لكي يدرك جيِّدًا الصورة الكليّة للعلم المدروس بمجامعه ومبانيه ورؤوس مسائله، ولا تُرسّخ المعلومة لديه بمرحلة لاحقة. هذا مع تشتيت المادّة المدروسة على فترات متباعدة، ومشايخ مختلفين، وربّما كتب مختلفة، فيدرس الطالب العبادات على شيخ من كتاب، والمعاملات على شيخ ثانٍ من كتاب آخر، وهكذا. ومن ثَم ّلا يستولي على كُلّيات العلم ومبانيه وعُمَد قواعده ومسائله - الذي يضمنه التدرّج والتّكرار - ولا يرسخ في ذهنه شيءٌ معتبر من العلم، بل يضيع الطالب بين المسائل والدلائل والكتب والشيوخ.
والفرق الثاني: أنّ الطريقة التقليديّة لا تسمح بـخلط العلوم بتدريس عِلمين فأكثر في وقت واحد إلا لأفذاذ الطلاب وأذكيائهم، بينما الطريقة الحديثة تخلط العلوم، ويصل التنوع في الدراسة أحيانا إلى أربعة علوم أو خمسة في الوقت الواحد. هذا فضلا عن عدم مراعاة الترتيب بين هذه العلوم فتُدرس علوم الغاية قبل علوم الآلة، أو معها، في كثير من الأحيان.
ومع هذا تمتاز الطريقة الحديثة عن الطريقة التقليديّة باهتمامها أكثر بأساليب التدريس التي تدعو إلى التركيز على الطالب بوصفه محورًا للعمليّة التعليميّة-التعلُّمية لا المعلِّم. ومن ثَمّ لا يغلب على الدّرس، الذي تُتبّع فيه الطريقة الحديثة، التلقين، كما في الطريقة التقليدية، بل يكون مصحوبًا بجملة من الأنشطة والأسئلة المثيرة للتفكير التي تحفِّز المتعلِّم على المشاركة في التعلُّم، وتستهدف تنمية قدراته العقلية ومهاراته الفقهيّة التي تتجاوز مجرد الحفظ والفهم، إلى التطبيق والتحليل والتركيب والنقد. كما أنّ الطريقة الحديثة تهتم بتنمية قدرات الطالب على البحث، وتعلّمه طرق الوصول إلى المعلومة، وتجبره على مراجعة الكتب الأصليّة والموسّعة والقديمة والحديثة لأداء الأنشطة والواجبات والبحوث، كما لا تخلّيه من إطلالات على العلوم الدنيويّة الأخرى، كعلم النفس والإدارة والتربية ونحوها. هذا فضلًا عن استغلال وسائل الإيضاح، والصّور الثابتة والمتحركّة، والرسوم الهيكلية، وتكنولوجيا التعليم في التدريس.
والتجديد الفقهي في مجال التّعليم، في نظري، ينبغي أن يكون بإيجاد طريقة تجمع بين الطريقتين، بحيث تشتمل على محاسن كليهما، وتتجنّب سلبيات كلٍّ منهما بالقدر الممكن. وهذا يقتضي إنشاء كليّات خاصّة لتعليم العلوم الشرعيّة، وفصلها عن الجامعات النّظاميّة التي تُدرِّس العلوم الدنيويّة، إلا إذا كانت الجامعات النّظاميّة تفسح المجال واسعًا لكليّات الشّريعة بالانفراد بوضع نظامٍ للتدريس فيها يراعي مبدئي: التدرّج والتّكرار، وعدم خلط العلوم. وهو ما أراه غير ممكن عَمَليًّا مع التعليم الحديث بنظام الفصول والساعات (الوحدات) المعتمدة، المتَّبع في كثير من الجامعات، إلا مع كثيرٍ من الإكراه والتّكلّف.
ومن الجدير ذكره في هذا المقام أنّ الفقه - والعلوم الشرعيّة عمومًا - كثيرًا ما يُدرَّس في مؤسّسات التعليم الشرعي الحديثة بما يجمع مثالب الطريقتين التقليديّة والحديثة، فلا هو متدرجّ ولا مكرّر، ولا منفرد، ثمّ هو، مع ذلك، يُدرَّس بوسائل وطرق بدائيّة تعتمد على مجرّد التلقين والمحاضرة، لا تُشرك الطالب في التعلُّم، ولا تدفعه إلى التفكير والبحث، ولا تستفيد من تقنيات التدريس الحديثة. وهذا ممّا يزيد التعليم ضعفًا على ضعف في هذه المؤسّسات.
وكتبه
أيمن صالح



تعليقات

  1. محمد عبد اللطيف30 يناير 2019 في 9:14 ص

    أحسنتم أخي الدكتور أيمن.

    ردحذف
  2. محمد عبد اللطيف30 يناير 2019 في 11:41 ص

    واسمح لي أن أقول: إن هذا ما تفضلت بطرحه هنا يؤكد على خطورة تحويل برامج الدكتوراه عندنا إلى رسالة فقط، لأن هذا يسهم في ترسيخ حالة الضعف التي يعاني منها الطلاب، أما دراسة عشرة مقررات كما هو مبرمج في برامج كليتنا فيتيح الفرصة لعلاج كثير من نواحي الضعف التي أشرت إليها في مقالك.
    ودمت بكل خير

    ردحذف
  3. بوركتم على التعليق أستاذنا الفاضل.
    من وجهة نظري كثرة المقررات لا تعني بالضرورة تحسين المخرجات وعلاج الضعف. الأكثر أهمية هو نوعية التدريس وطريقته. وحيث إن درجة الدكتوراه هي درجة بحثية في الأساس فلو استعيض عن "بعض" المقررات بندوات يعد الطالب فيها بحثا ويقدمه ويناقش فيه فسيكون هذا أكثر فائدة له من مجرد نتف غير منهجية تعطى له بطريقة التلقين ثم اختبار الحفظ "المؤقت" غالبا بالامتحان.
    على أن المقترح ليس هو تحويل البرنامج إلى رسالة فقط، فهذا غير مسموح به في نظام الجامعة أصلا، بل المقترح تقليلُ عددها من عشرة إلى خمسة أو ستة بحيث ينتهي منها الطالب في سنة واحدة، ثم يتفرغ للبحث.

    ردحذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

دليلك السريع للتعامل مع موقع تقييم الأداء السنوي في جامعة قطر

ثماني صفات للاختبار الجيد

أهم التعديلات على لائحة الترقيات الجديدة في جامعة قطر